الهلال الخصيب : استبداد واستقرار ام حرية ودمار؟

د. مثنى عبدالله
يجمع الكثير من الباحثين السياسيين الغربيين على أن دول الهلال الخصيب، وفي مقدمتها العراق وسوريا، واقعة بين خيارين لا ثالث لهما، إما الاستقرار أو الحرية.
وهم هنا يرفضون الربط ما بين المفهومين كقاعدة سياسية وفق مسار واحد، بل يفصلون هذه المعادلة إلى جزئين، وينظرون إلى كل طرف فيها على أنه معادلة بحد ذاتها، أي أن الشعب المشتت في هذه الجغرافيا، إما أن يطلب الاستقرار ويدفع ثمنا له حريته، أو تتوفر له الحريات ويدفع ثمنها دماء أبنائه ومستقبل أجياله والعيش في ظرف مجهول، إلى الحد الذي وصف فيه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر هذه الحالة بتسمية الموت بالديمقراطية وقال، «أعط لبنان حرية يقتل نفسه».
ويرجع الكثير من الباحثين الامر إلى أن جغرافية الهلال الخصيب، جغرافية متحركة وليست ثابتة، بسبب أنها كانت ساحة حروب وصراعات بين امبراطوريات تاريخية كبرى، الأتراك والإيرانيين.
فتارة تتغير خريطتها السياسية لصالح هذا الطرف، وتارة أخرى لصالح الطرف الآخر، أي حسب من هو المنتصر. ففي عام 1514 باتت هذه الخريطة الجغرافية تحت السيطرة التركية، بعد خسارة الفرس في معركة شلدران، وساد العنصر التركي فيها لقرون عديدة، لكننا نجد اليوم أن هذه المنطقة عادت تحت السيطرة الايرانية كما كانت سابقا. تبادل أدوار الهيمنة الاجنبية على الهلال الخصيب، عزز النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، لأن الأطراف المهيمنة كانت تسعى دوما إلى استمالة فئة اجتماعية ضد أخرى، وطائفة على حساب طائفة أخرى، إلى الحد الذي أوجد قاعدة عامة تقول بأن حالة اللاأستقرار هي الصفة الطبيعية للمنطقة، وحصول الاستقرار لا يتم إلا بالقوة وغياب الحريات. وبالتالي فإن غياب القوة والسيطرة تعني عودة المنطقة إلى المستوى الديني والإثني والمذهبي، وأن الحدود السياسية بين دول الهلال الخصيب ستسقط لا محالة. هذه النظرة الانعكاسية للوضع العام لهذه الجغرافيا، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها، نجد لها أمثلة حية على أرض الواقع اليوم. فالحدود القائمة بين الدول لم تعد موجودة عمليا، فحزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية الاخرى أسقطت الحدود اللبنانية السورية، والعراقية السورية، كي تقاتل في سوريا، كما كان هنالك عبور معاكس لـ»القاعدة» وتنظيم «الدولة»، وكلاهما باتا لاعبين أساسيين أضافا بعدا دينيا للقتال باشكال واتجاهات مختلفة ومتعاكسة تماما.
إن العوامل الداخلية والخارجية، والظروف الموضوعية والذاتية للهلال الخصيب، جعلت منه ساحة حرب دائمة، وديمومة الحروب جاءت من عدم قدرة أي طرف على تحقيق النصر والاحتفاظ به، لأن العوامل التي تصنع النصر مشتتة فيه لكثرة اللاعبين، حتى الولايات المتحدة الامريكية عجزت عن تحقيق النصر في غزوها للعراق، لانها لم تستطع السيطرة على عوامل النصر الاساسية. هي نجحت على المستوى التكتيكي لكن هذا لن يمنح الإستراتيجية ضمان النجاح عندما تكون خاطئة. هي اختارت العراق في محاربة ما سمته الارهاب، لأنه باب الهلال الخصيب ومركز ثقل المنطقة، وبالتالي كانت تعتقد بأنه بوابة الإطلالة على دول الجوار لإحداث تغيير جذري فيها. هنا حصل نجاح تكتيكي باحتلال العراق وتراجع لـ»القاعدة» على مستوى العالم، لكن الفشل الإستراتيجي كان كبير جدا دفعت ثمنه الكثير من الاموال والدماء، واختلت فيه موازين القوى في المنطقة، إلى الحد الذي خسرت فيه حلفاءها.
أما العراق الذي توقعت أن يكون هو البوابة التي تهب منها رياح التغيير على الجميع، فقد تشتت وبات فريسة سهلة لكل الدول، وتحول من عامل توازن إستراتيجي فاعل إلى بؤرة فساد وطائفية، انتشرت بذورها في المنطقة جميعا وأصبحت تهدد المصالح الامريكية فيه. كما ولد تنظيم «الدولة» الذي فاق «القاعدة» في انتشاره، وقدرته الكبيرة على التهديد المباشر لكل مصالح الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة، وبالتالي فإننا اليوم أمام جغرافية جديدة في الهلال الخصيب ليست تلك التي تعودنا عليها في فترات سابقة، بل حتى الولايات المتحدة الامريكية نفسها تغيرت أيضا بفعل دخولها المباشر إلى الهلال الخصيب، ولم تعد تلك الدولة التي تعاملت مع العالم بعنجهية مسعورة، وباتت تحسب خطواتها ألف مرة قبل أي تدخل عسكري واسع ومباشر في العالم.
إن التحديات التي تواجه الهلال الخصيب اليوم ليست حالة عدم الاستقرار وحسب، بل هو يتجه بصورة سريعة نحو التشرذم والتفتت على أسس طائفية وإثنية ومذهبية، وأن الحدود السياسية لهذه الجغرافية لا يمكن لها أن تصمد أكثر من ذلك. فلقد باتت الاصوات التي تنادي بالانفصال والتقسيم أعلى من أي وقت مضى، ولديها الجرأة على الدعوة بذلك علنا، بل أن لها أنصارا ومؤيدين من كل الطبقات الاجتماعية تقريبا، إلى الحد الذي بات فيه الصوت الوطني بعيدا جدا عن التأثير، وخجولا في مخاطبة الآخرين بما يؤمن به، لأن الكثير من الطبقات الاجتماعية أصابها اليأس التام من عودة الاستقرار، وبالتالي باتت مراهنة المواطن على عناصر لم يعرفها سابقا، معللا نفسه بالحصول على الاستقرار من خلالها. فهنالك اليوم قطاعات شعبية واسعة باتت لا تؤمن إطلاقا بطريقة العيش المشترك التي كانت تعيشها، وباتت تعتقد أن حصولها على الاستقرار يكمن في ابتعادها وانعزالها عن الاخر. كما باتت الحالة الطائفية في المنطقة قابلة للعيش ومتوالدة، وأصبح لها منظرون ومفكرون يدعون إليها، مستغلين هذا الاتجاه المشوه لحق التعبير تحت مظلة ما يسمى بالحريات المدنية.
أننا هنا لا نثقف باتجاه تمجيد الاستبداد السياسي، والكبت القاتل للحريات الذي يقضي على كل حالة إبداع في المجتمع، لكننا نتساءل هنا عن ما فائدة أكثر من مئة صحيفة ومئة قناة فضائية، في بلد تعداد نفوسه لا يتجاوز الأربعين مليون نسمة، كل صحيفة فيه وكل قناة فضائية تنطق باسم طائفة أو مذهب أو قومية؟ وما هي نوع التنمية السياسية التي تقوم بها مئات الأحزاب والحركات السياسية، وما تسمى منظمات المجتمع المدني، التي هي عبارة عن بؤر للتثقيف الطائفي والإثني لخلق عداء دائم بين جميع الاطراف الاجتماعية؟
لقد استعمل الاستبداد الدولة كأداة للبطش والتنكيل والقمع السياسي، لكن المستبدين لم يكونوا يعتبرون الدولة ملكهم، لذلك لم يتركوا شيئا عندما رحلوا، ولم تكن مصدرا للإثراء لأولادهم وحواشيهم، بينما تملكها الديمقراطيون الجدد وباتت معادلة، أنا الحاكم والنظام هو أنا والدولة هي نظامي، هي من تهدد خريطة الهلال الخصيب، خاصة أنهم وضعوا كل ثروات البلاد في جيوب أبنائهم وحواشيهم ومتحزبيهم، والعراق أبرز مثال على ذلك، حتى انتقل مفهوم المعارضة السياسية لديهم إلى كونه عنصر تهديد لكياناتهم.
– See more at: http://www.almadarnews.info/index.php?page=article&id=12656#sthash.5ZIFfp1a.dpuf
اترك تعليقاً